الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
هذه الضوابط يسميها الله {العقود}.. ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود.وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح. وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية. وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة. وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية. وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل. وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله؛ والحذر من عدم العدل تأثرًا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن.افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة {العقود} معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله.. وفي أولها عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته.. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود؛ وسائر الضوابط في الحياة.وعقد الإيمان بالله؛ والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته؛ ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق.هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم عليه السلام وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرط وعقد هذا نصه القرآني: {قلنا اهبطوا منها جميعًا. فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك. المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله، باطلًا بطلانًا أصليًا، غير قابل للتصحيح المستأنف! وتحتم على كل مؤمن بالله، يريد الوفاء بعقد الله، أن يرد هذا الباطل، ولا يعترف به؛ ولا يقبل التعامل على أساسه. وإلا فما أوفى بعقد الله.ولقد تكرر هذا العقد- أو هذا العهد- مع ذرية آدم. وهم بعد في ظهور آبائهم. كما ورد في السورة الأخرى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم. أفتهلكنا بما فعل المبطلون} فهذا عقد آخر مع كل فرد؛ عقد يقرر الله سبحانه أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم.. وليس لنا أن نسأل: كيف؟ لأن الله أعلم بخلقه؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم. بما يلزمهم الحجة. وهو يقول: إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم.. فلابد أن ذلك كان، كما قال الله سبحانه.. فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء!ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل- كما سيجيء في السورة- يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم.. وسنعلم- من السياق- كيف لم يفوا بالميثاق؛ وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق.والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قد تعاقدوا مع الله- على يديه- تعاقدًا عامًا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله.وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام.. ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار.. وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو «بيعة الرضوان».وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية لله، تقوم سائر العقود.. سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله- فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها.إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء.. ومن ثم كان هذا النداء:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلِّي الصيد وأنتم حرم. إن الله يحكم ما يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمَّين البيت الحرام يبتغون فضلًا من ربهم ورضوانًا. وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى. ولا تعانوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله. إن الله شديد العقاب. حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام. ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}.إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح، وفي الأنواع، وفي الأماكن، وفي الأوقات.. إن هذا كله من {العقود}.. وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء. فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده؛ ولا يتلقوا في هذا شيئًا من غيره.. ومن ثم نودوا هذا النداء، في مطلع هذا البيان.. وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام:{أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم}.وبمقتضي هذا الإحلال من الله؛ وبمقتضى إذنه هذا وشرعه- لا من أي مصدر آخر ولا استمدادًا من أي أصل آخر- صار حلالًا لكم ومباحًا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول {بهيمة الأنعام} من الذبائح والصيد- إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها- وهو الذي سيرد ذكره محرمًا.. إما حرمة وقتية أو مكانية؛ وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان. وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم؛ ويضاف إليها الوحشي منها، كالبقر الوحشي، والحمر الوحشية والظباء.ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم.. وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام:{غير محلِّي الصيد وأنتم حرم}.والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها. فالإحرام للحج أو للعمرة، تجرد عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام، الذي جعله الله مثابة الأمان.ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء.. وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية؛ تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة؛ وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء؛ وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء.وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق:{إن الله يحكم ما يريد}.طليقة مشيئته، حاكمة إرادته، متفردًا سبحانه بالحكم وفق ما يريد. ليس هنالك من يريد معه؛ وليس هنالك من يحكم بعده؛ ولا راد لما يحكم به.. وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء. اهـ.
|